الأحد، 19 مايو 2013

بعض من القدس ... [ قلب منسي 14] ♥♥










من : الموت البارد





تكفن أضلاعه تلك الارض الباردة الملقى عليها , يجتاحه شيء من خوف و غضب دام سنين لم يطويها القدر , فكاتب هذا التاريخ يمرعلى الأمهات كل صباح, على الاطفال في نحيبهم و الشرود الصغيرفي اعينهم , يمر على الرجال حين يُغَطِّسون خبز القدس في زيت رام الله ثم يلتهمونه مع زعتر يافا , يمر على كوب شاي بيد عجوز تَعُدُّ أيّام عمرها مع كل زيتونة مجففة في مسبحتها و يمر على خطوط ثوبها كي يستأذن من الثنايا أن يدير صفحة التاريخ يومًا بعد , يمر على جنود يحملون البنادق بأيديهم كما لو أنها أطفالهم البكر كما لو أن الله خلقهم مدججين بالسلاح , كبثرة على وجوههم يحاولون التخلص منها لكنها باقية بأثر أو بدونه فهي قد داست على وجوههم و قالت بملئ فاهها قد كنت هنا , أنا بخلخالي المرصع ببكاء الأطفال كنت هنا, انا بنحيب امراة بجانب جثة زوجها و أربعة من أطفالها كنت هنا , انا بمنبر قد قدسه الشعوب كثأر من السماء كشكل من الآلهة كان محرما أن يمسه غير النساك , لكني ببعض من خبثي المعهود أمسيته رمادا وكنت هنا ,و أمام وجوه ملايين الذين يحملون بقايا عزة الايوبي و أنفة الخطاب إبتسمت بكل غرور و تحديت ما فيهم أن يتقدموا خطوة , و رفعت رايتي بنصر و تأخروا هم خطوة .

كانت برودة الارض تتلاشى امام حرارة الصواريخ فوق رأسه ,و صوت التفجر حوله ليس سوى صدى الألم من جوف هذا الوطن, كما لو أن الدخان غطاء السماء المخصص لهذه البقعة من الارض . رويدا تساقطت قطرات العرق من أرنبة أنفه الى يده التي ترتجف مع كل دقة ثانية, و كل طرقة باب من يد محتلة , يقلب بين أصابعه النحيلة عشرة حبوب دواء و نيف , ضجيج تقلبهم بين اصابعه كما لو انه نوتات شاذة لا أكثر إذا ما قورن بحلبة المصارعة القائمة داخله , كان كمن بداخله يقبع الموت بلا حياء أو خجل ينظر الى عينيه الى كتفيه الى يديه ينظر الى كل ما بداخله و يخيط على كل ما بداخله بيوت عناكب و بعض من الديدان , يجعله فارغ لا يعرف شيء من هذه الحياة سوى النكران , يجبره على الصمت المميت , حتى الرياح ما عادت تهب داخله , و تمتات النفس أمست من الماضي , أصبح وجه الموت الآخر إذا ما أعلن الموت أن وريثه في الارض .

صفعة من ملائكة أدّت حق الجوار فزارت جارها , تذكر كوفيته التي كان يلفها حول أنفه و حجارة البيوت بين يديه , تذكر أباه عندما كان يحضره الى صلاة الجمعة و يحضره في كل مظاهرة كانت تقوم , تذكر عندما كانت القنابل المسيلة للدموع بين قدميه , و عندما كان يركض خلف والده يحاول اللحاق به , و كيف أن الرجولة تصرخ لتعلن وجودها عندما حاول أحد الشبان أن يحمله ليبعده عن الرصاصات و تذكر عندما قال أباه لذاك الشاب بكل إصرار و بنبرة حزم : دعه يركض , فقد تركت أمه ترضعه من
ثديها تراب الوطن سنينا طويلة لكي يعتاد طعم التراب من الان فأنا لم أنجبه الا ليكون شهيدا آخر يرفع أرض هذا الوطن شبرا آخر بجسده عندما يدفن بالتراب .

سنين الغربة التي قضاها بعيدا عن ذاك الشيء المسمى [ بالوطن ] أنسته بأي إصبع يجب أن يصافح به الموت , لولا أن رئتاه رفضت ان تتنفس هواء المنفى و رفض جبينه أن يقبل تراب لم تدسه جنازة لا نهاية لها , و رجال بها يكفكفون الدمع بطرف ثوبهم . تاريخ بألف إصبع مرفوع بالشهادة يدفن أمام عينيه تحت التراب و لا يبقى منه سوى شاهد ضريح و ورد ذابل النهايات , لولا ذلك لما عاد الى أشلاء وطن مرمي على أطراف الكون. في ليله يسقط الظلام و تتحرك نسمات الهواء كحارس إلهي يطمئن أن كل باب مغلق و أن كل القلوب تنبض مرة واحدة تُحس بها كما لو أن الارض تشهق و ترتفع الى السماء العليا تشبك أصابعها بأصابع الملائكة و تسري شيء من القدسية داخلها ثم ترجع الى الارض بلا ذنوب كصفحة بيضاء مخدوش طرفها .

بينما هو يشذ عن نبض الوطن إذ رأى أن هنالك شعاع من ضوء قد ثار على الظلام الذي حوله و تسلل ليعلن ان الثورة شيء بالفطرة شيء يدفعنا لنعيش دقيقة أخرى لنثور على الموت الذي لا ينفك يلمس قلوبنا يوما بعد يوم يبث فيها خوفه الذي بدأ يتلاشى ,لان الموت ببساطة أصبح كإرتشاف القهوة كل صباح .

رأى من خلال ذاك الثقب أطفالا ملطخون بتراب و دماء يحفرون بقبر و يحفرون , شعر بأن وجوههم تبدو مألوفة , فملامحهم توحي بالرجولة و الشقاء الشيء الذي لازمه كظله طوال حياته . قطب حاجبيه عندما رأى الاطفال يخرجون جثة طفل بمثل عمرهم كان وجهه كبدر افتٌقِدَ في ليلة عائلة ما , أجلسوه على صخرة و أراحوا ظهره على الجدار مسك أحدهم رأسه بقوة و قال صارخا : لقد نمت قبل أن نكمل لعبتنا , أأوقفت لعبتنا لكي تذهب لتنام ؟ أأوقفتها لكي ترى بكاء أمي ؟ أأوقفتها لكي ترى كيف أن كبارا بقامات مختلفة لم نراهم يوما بالعيد حملوك على أكتافهم و ساروا بعيدا ؟كنت أحاول أن أراك بطرف عيني لكني ما استطعت . أأوقفتها لكي تلبس هذا الابيض يا أخي ؟ سنكملها
الان و ستلعب معنا كما لو أنها لعبتنا الاولى .

سقطت دمعاته الممزوجة بعرق جبينه ,و شعر ان هنالك شيء مؤلم يسري بقلبه حتى معدته و قدماه , انتفض شيء بداخله و تزلزل , نظر الى يديه التي لطالما رفعها بوجه محتل حقير , كيف أنها الان تحمل حبوب الدواء لينتحر لأنه فقط خائف .

ابتسم بطرف فمه ابتسامة سخرية لما أصبح عليه , علم حينها أن الأمر ليس بالفطرة فقط و ليس بأب يلقنك حلم منذ الطفولة و ليس بأصوات رصاصات و قنابل تعتاد عليها , إن حب هذه الارض ممزوج بالهواء تتنفسه و يجري بدمك مجرى الماء و الملح في شريان أسير خلف قضبان الايادي .

ابتسم ابتسامة سخرية لإنه اكتشف أن ذاك الشهيد الطفل لم يكن سوى اخيه و أن الطفل لم يكن سوى هو في صغره , و أن الثقب لم يكن في الجدار بل كان بروحه التي عشعش بها الموت حتى أظلمها .








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق